اما بعد ..
فإن التواضع من الأخلاق الإسلامية الراقية و السمات النبيلة التى يحبها الله تبارك و تعالى و يرفع اهلها فقد اخرج الإمام مسلم فى صحيحه عن ابى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه و سلم قال ( مانقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو الا عزا و ما تواضع احد لله الا رفعه الله) وهو من الأخلاق التى ينبغى ان يتحلى بها كل مسلم ناهيك عن ان يكون عاملا فى الدعوة الى الله , فالذى يعمل فى هذا الحقل هو اولى الناس بهذا الخلق الرفيع الذى تخلق به خير البرية صلى الله عليه و سلم فكان خافض الجناح للكبير والصغير، والقريب والبعيد، والأهل والأصحاب، والرجل والمرأة، والصبي والصغير، والعبد والجارية، ، فالكل فى نظره سواء، لا فضل لأحد على آخر إلا بالعمل الصالح .
وكان نبينا صلى الله عليه و سلم و هو امام الدعاة رقيق القلب رحيما بالمؤمنين يحمل الكل و يكسب المعدوم و يعين على نوائب الدهر و كان صلى الله عليه و سلم يركب الحمار ويردف عليه ويبدأ من لقيه بالسلام و يسلم على الصبيان و يكون فى مهنة اهله_ يعنى فى خدمتهم _.
.وعندما سمع بعض أصحابه يناديه قائلاً:انت سيدنا و ابن سيدنا و خيرنا و ابن خيرنا فنهاهم عن ذلك و قال ( انا عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتى التي أنزلني الله عز وجل ) رواه أحمد و النسائي
ومن مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم ايضا، أنه لم يكن يرضى من أحد أن يقوم له تعظيمًا لشخصه، بل كان ينهى أصحابه عن فعل ذلك؛ حتى إن الصحابة رضوان الله عنهم، مع شدة حبهم له، لم يكونوا يقومون له إذا رأوه قادمًا، وما ذلك إلا لعلمهم أنه كان يكره ذلك .
ولم يكن تواضعه عليه الصلاة والسلام صفة له مع صحابته فحسب، بل كان ذلك خُلُقًا أصيلاً، تجلى مع الناس جميعًا. يبين هذا أنه لما جاءه عدي بن حاتم يريد معرفة حقيقة دعوته، دعاه صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها، فجعل الوسادة بينه وبين عدي ، وجلس على الأرض. قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك و عندما كلمه رجل يوم الفتح فاخذته رعده فقال له النبى صلى الله عليه و سلم هون عليك انما انا بن امرأة من قريش كانت تأكل القديد .
وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يجلس مع أصحابه كواحد منهم، ولم يكن يجلس مجلسًا يميزه عمن حوله، حتى إن الغريب الذي لا يعرفه، إذا دخل مجلسًا هو فيه، لم يستطع أن يفرق بينه وبين أصحابه، فكان يسأل: أيكم محمد ؟ .
ويدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن يرد أي هدية تقدم إليه، مهما قلَّ شأنها، ومهما كانت قيمتها، ولم يكن يتكبر على أي طعام يدعى إليه مهما كان بسيطًا، بل يقبل هذا وذاك بكل تواضع، ورحابة صدر، وطلاقة وجه .
ومن أبرز مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم ما نجده في تعامله مع الضعاف من الناس وأصحاب الحاجات؛ كالنساء، والصبيان. فلم يكن يرى عيبًا في نفسه أن يمشي مع العبد، والأرملة، والمسكين، يواسيهم ويساعدهم في قضاء حوائجهم. بل فوق هذا، كان عليه الصلاة والسلام إذا مر على الصبيان والصغار سلم عليهم، وداعبهم بكلمة طيبة، أو لاطفهم بلمسة حانية .
ومن صور تواضعه في علاقاته الاجتماعية، أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا سار مع جماعة من أصحابه، سار خلفهم، حتى لا يتأخر عنه أحد، ولكي يكون الجميع تحت نظره ورعايته، فيحمل الضعيف على دابته، ويساعد صاحب الحاجة في قضاء حاجته فهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو من هو خير خلق الله كان اشد الناس تواضعا فى نفسه صلى الله عليه و سلم و لما رأى الصحابة الكرام هذا الخلق من رسول الله ماكان منهم الا ان تخلقوا بهذا الخلق الرفيع وعلموا الدنيا معنى التواضع فهذا ابوبكر الصديق رضى الله عنه كان يذهب الى كوخ امرأة عجوز فينظف لها كوخها ويعد لها طعامها و يقضى لهاحاجتها و يوم ان بعث اسامة الى قتال الروم خرج يودع الجيش و هو يمشى و اسامه بن زيد راكبا فقال اسامه يا خليفة رسول الله لتركبن او لأنزلن فقال له ابوبكر و الله لااركبن و لا تنزلن و ما على ان اغبر قدمى ساعة فى سبيل الله وهذا عمربن الخطاب وهو امير المؤمنين يصوب قول المرأة التى ردت عليه ويعلن تراجعه عن رأيه رضي الله عنه كما جاء في السير في القصة المعروفة والمشهورة عن تحديد المهور.
بل إنه يُروى أن رجلاً قال له: لو زللت لقومناك بسيوفنا، فقال عمر رضي الله عنه: الحمد لله الذي جعل من يقوم عمر بسيفه.
قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ينبغي لك هذا. فقال: (لما أتاني الوفود سامعين مطيعين - القبائل بأمرائها وعظمائها - دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها)
وهذا عمربن عبد العزيز يسير على نفس الدرب نزل عليه ضيف و هو خليفة فأنطفأ المصباح عليهما فقام عمر اليه ليصلحه فقال له جليسه يا امير المؤمنين لم لم تامرنى ان اصلحه او تأمر احدا من الخدم ان يصلحه فقال له عمر بن عبد العزيز قمت وانا عمر و رجعت وانا عمر لم ينقص منى شىء و خير الناس عند الله من كان متواضعا.
وقال الحسن رحمه الله: هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً , وقال أبو علي الجوزجاني: النفس معجونة بالكبر والحرص على الحسد، فمن أراد الله هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيراً لطف به في ذلك. فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى
و يقول الشافعي رحمه الله: "أرفعُ الناس قدرًا من لا يرى قدرَه، وأكبر النّاس فضلاً من لا يرى فضلَه"[أخرجه البيهقي في الشعب (6/304)],
و لذا وجب على من سار على هديهم و طريقتهم ان يتمثل التواضع فى كل امره وان يكون هذا الخلق امرا اصيلا فى نفسه و مع الناس من حوله فلا يلمس المخالط للداعية منه الا الرفق ورحابة الصدر ولين الجانب و طلاقة الوجه و حسن السمت والصبر على اذى الخلق , فإن تواضع الداعية مع المدعوا له اكبر الأثر فى نفوس المدعويين فإن النفوس مجبولة على حب المتواضعين و بغض المتكبرين وقد تكون هذه الإبتسامة العريضة المرتسمه على وجه الداعية عند استقباله للناس سبب فى هدايتهم و تثبيتهم على الطريق و هى بلا شك سبب فى تقبل الناس لكلام الداعية و قبولا لنصحه .
ومما ينبغى ان يتنبه له الداعية فى هذا الباب ان من علامات التواضع هو الا يتعاظم فى نفسه ان وجد لكلمته قبولا عند الناس او كثر عنده الأتباع و التلاميذ فقد تتغير نفوس البعض عندما يذيع صيته او ينتشر اسمه او تعرف صورته بين الناس و هذا ما ينبغى ان يحذر منه الداعية على نفسه و يسعى دائما الى تذكير نفسه ان هذا من فضل الله عليه هو جل و علا من هيأ له الأسباب و يسر له سبل الطلب و التعلم و التعليم و كذلك لاينسى فضل من علمه و ارشده و بين له الطريق و لاينسب الفضل الى نفسه او يلاحظ من يخالطه انه دائم الكلام على نفسه و على عمله فإن هذا ينافى التواضع الواجب
ومن هذا الباب ايضا قبول الداعية للنصيحة و رغبته فى مشاورة اخوانه فالداعية فى امس الحاجة الى من يرشده و من يتشاور معه فى شأنه كله خصوصا اذا كان الأمر يتعلق بالدعوة ووسائلها و طرائقها و اولوياتها ومعروف انه كلما كان الداعية اقرب الى الناس كان كلماته و مواقفه مؤثرة و يترتب على موقفه أوعلى كلماته هداية الناس للخير او ضلالهم و العياذ بالله لذا يحتاج الداعية الى ان يربى نفسه على قبول النصيحة من اخوانه و لا يتكبر ابدا على نصيحتهم فإن الكبر بطر الحق اى رده و غمط الناس وقد يظهر البعض قبول النصيحة و لكن حقيقة الإستجابة قد تكون ضعيفة على ارض الواقع و الذى يريد النجاح فى دعوته يحتاج دائما الى ان ينظر الى الواقع الدعوى من خلال نظرته و نظرة اخوانه حتى تتكامل الصورة فى مخيلته فأنى للفرد ان يحوزالخير كله و النفس البشرية مليئة بالقصور واوجه النقص , فالتاجر الحاذق مثلا لا يأخذ قرارا فى تجارته حتى يستشير التجار اصحاب الخبرة و الدراية فى مجاله و هذا يبحث عن متاع دنيوى فمابالنا و الداعية يبحث عن نصرة الدين و تعبيد الخلائق لله جل و علا و قد يترتب على موقفه هذا خير كثير او شر مستطير فالتواضع هو الذى يحمل الداعية على مشوارة اخوانه و قبول مشورتهم و هو الذى يحمله على ان يتعلم من الآخريين و لايتوقف عن قبول التوجيه من الآخريين مهما كان حجم الناصح بالنسبة له فكما يقول العلماء كم فى الزوايا من خبايا فإياك و ان تحتقراحدا و الحق ضالة المؤمن اينما وجده أخذه .
و فى نهاية هذا التطواف نقول بمثل هذاالخلق الرفيع ساد القوم و رفع الله ذكرهم و ابقى اثارهم و كل من اراد ان يكون له من الإثر مثل ماكان للقوم فعليه ان يسير على دربهم و يتخلق باخلاقهم نسأل الله جل فى علاه ان يوفقناو يهدينا الى احسن الأخلاق انه لا يهدى لأحسنها الا هو و آخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و سلم .
0 التعليقات:
إرسال تعليق