بسم الله والحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم أما بعد ..
فإن قضية تقديس الأشخاص من القضايا التى ينبغى على ابناء الصحوة التنبه لها و ضبطها بضوابط الكتاب و السنة , فنحن جميعا نعلم ان الإسلام يربى ابنائه على تعظيم الدليل من الكتاب و السنة الصحيحة الثابتة و على ان العصمة لاتثبت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و على طاعة الله و طاعة الرسول و طاعة اولى الأمر من المسلمين كما فى قوله تعالى " و اطيعو الله و اطيعوا الرسول و اولى الأمر منكم " فجعل طاعة الله و طاعة الرسول طاعة مطلقة بلا حد و لاقيد و جعل طاعة اولى الأمر الذين هم العلماء و الأمراء كما هو قول عامة علماء التفسير طاعة مقيدة بطاعتهم لله و طاعتهم لرسوله صلى الله عليه و سلم و ذلك لإنه عطفها على طاعة الله و طاعة الرسول , فطاعة العلماء و الأمراء مقيدة بطاعتهم لله و طاعتهم لرسوله صلى الله عليه و سلم الذى قال " انما الطاعة فى المعروف " و قال " لاطاعة لمخلوق فى معصية الخالق " و هذا يدل على تربية الإسلام للمسلمين على تعظيم النصوص الشرعية من كلام الله و كلام رسوله صلى الله عليه وسلم , هذا التعظيم و التقديم الذى صرفه البعض لكلام العلماء على ما نكنه فى صدورنا من احترام لكلام العلماء لكنه ينبغى التفريق فى التعامل بين نصوص الكتاب و السنة و نصوص العلماء فليس كل قول لعالم من العلماء يعتبر بمنزلة النص الشرعى قطعى الثبوت و الدلالة أو حتى قطعى الثبوت أو الدلالة و يكون حجة من يناظر او يستدل ان فلان قال كذا ..... فنحن لانقدح فى اى عالم من علماء الأمة قديما أو حديثا انما نطعن فى هذه الطريقة فى الإستدلال و هذا الذى اشار إليه ابن عباس عندما اراد ان يعلم الناس الا يواجهوا الدليل الشرعى بأقوال الرجال فقال لهم " توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله و تقولون قال ابوبكر و عمر " و هو رضى الله عنه يعرف قدر ابى بكر و عمر و انهم لايخالفون الدليل و انهم اكثر تعظيما للدليل منه و هو لايقلل من منزلتهم ابدا و انما كما ذكرنا يعلم الناس الا يحتجوا فى مقابلة النصوص الشرعية باقوال الرجال و تكون هذه هى حجتهم ,فاحترام العلماء واجب شرعى تفرضه الآيات القرانية و الأحاديث النبوية كمثل قوله تعالى { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة:11) و قوله تعالى{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (الزمر: 9) و قوله صلى الله عليه و سلم ( ليس من أمتي من لم يجلّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقَّه ) رواه أحمد والطبراني و قد كان السلف يجتهدون فى بيان هذا المعنى بطريقة عملية ومن ذلك ما كان يفعله عبدالله بن عباس رضي الله عنهما مع زيد بن ثابت رضي الله عنه، حيث إن زيداً من أكابر الصحابة وعلمائهم ، فكان عبدالله بن عباس – وهو من هو في شرفه – يمسك بركاب دابة زيد بن ثابت ، ويقوده ، ويضع يده له ليركبه ، ويقول : هكذا أُمِرنا أن نفعل بعلمائنا.
والاحترام لا يعني بحال تقديس العلماء لدرجة اعتبارهم معصومين ، أو قبول كل ما يقولون دون دليل ، فهذا غلوٌّ لا يجوز ، لأن العلماء وغيرهم يجب عرض أقوالهم على الكتاب والسنة ، فما وافقهما قبِل ، وإلا ردّ ؛ قال الإمام مالك رحمه الله : كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك ، إلا صاحب هذا القبر – أي رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وانت عندما تنظر لواقع الصحوة ستجد ان هذا الأسلوب أصبح هو الأسلوب المسيطر على طبقة كبيرة من الملتزمين خصوصا من قل علمه بالكتاب و السنة و معرفته للخلاف بين العلماءو درجة هذا الخلاف أعنى هل الخلاف فى المسألة من الخلاف السائغ المقبول أم من الخلاف غير السائغ المخالف للبينات فتجد البعض يتعصب لقول عالمه بالرغم من ضعف القول أو مخالفته الظاهرة للدليل أو وجود أقوال لعلماء أخر أولى بالدليل و الذى يمنعه من متابعة القول الراجح هو ما وقر فى قلبه من محبته لهذا العالم أو ان القائل للقول المرجوح أو القول الضعيف أو القول الباطل أحيانا هو العالم المعظم فى نفسه ، وهذا ماينبغى أن نتحرر منه و نتابع الدليل أينما كان و مع اى أحد كائنا من كان دون النظر إلى مكانة القائل , ونقول مثل ماقال الإمام ابن القيم رحمه الله " شيخ الإسلام حبيب إلى قلوبنا ولكن الحق أحب إلينا منه " فالواجب على طالب الحق أن يبحث عن القول الراجح بدليله و لايتابع عالما إلا دون أن يعرف دليله فى المسألة خصوصا إذا كان التابع من طلبة العلم , بل ينبغى على العلماء أن يربوا اتباعهم على تعظيم الدليل من الكتاب و السنة و إذا وجدوا يوما من الدهر أن أقوالهم تخالف الدليل فليتركوا أقوالهم بلا تردد كما كان يصرح بذلك الأئمة الكبار كالإمام مالك و الشافعى و غيرهم عندما كانوا يقولون لأتباعهم " إذا وجدتم كلا منا يخالف كلام رسول الله فضربوا بأقوالنا عرض الحائط و خذوا بكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم , وفى ظنى أن هذا الموضوع يحتاج إلى تكرار و بيان لأن الطالب دائما ما يتعصب لمعله و تخرجه هذه العصبية عن حد الإعتدال فى تقيم الأقوال و الأفعال و هذه التربية على ترك التعصب لأقوال الرجال تزيل من الواقع الدعوى كثير من المشاكل بل و المعارك الطاحنة بين أتباع الشيخ الفلانى و أتباع الشيخ العلانى فإن العصبية تزدهر مع فشوا الجهل فى الأتباع و كلما ازداد العلم فى الأتباع كلما ازدهرت فيهم معانى التناصح و قبول النصيحة و التوجيه و كان الرفق عنوان العلاقة التى بينهم على الرغم من الإختلاف فى و جهات النظر كما كان حال الرعيل الأول , ان تعظيم العلماءإلى درجة فرض هالة من القداسة على اشخاصهم و افعالهم يؤدى إلى وقوع الطائفة المؤمنة فى ما يغضب الله عز جل من تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق و ذلك بجعل أقوالهم و أفعالهم بمفردها دليلا شرعيا و هذا ما تأباه النصوص الشرعية من الكتاب و السنة كمثل قوله تعالى : " اتخذوا احبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله " قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى الفتاوى جـ7 صـ67 وما بعدها :ـ
وقد قال الله تعالى:" اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31) التوبة...وفى حديث عدى بن حاتم وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذى وغيرهما وكان قد قدم على النبى صلى الله عليه وسلم وهو نصرانى فسمعه يقرأ هذه الآية قال فقلت له أنا لسنا نعبدهم قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه قال فقلت بلى قال فتلك عبادتهم وكذلك قال أبو البخترى اما أنهم لم يصلوا لهم ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية وقال الربيع بن أنس قلت لأبى العالية كيف كانت تلك الربوبية فى بنى اسرائيل قال كانت الربوبية أنهم وجدوا فى كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه فقالوا لن نسبق احبارنا بشىء فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم اياهم كانت فى تحليل الحرام وتحريم الحلال لا أنهم صلوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله فهذه عبادة للرجال .......)
وقال فى نفس السياق : (وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم فى تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا وان لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من اتبع غيره فى خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركا مثل هؤلاء. والثانى: أن يكون اعتقادهم وايمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم فى معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصى التى يعتقد أنها معاص فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:" انما الطاعة فى المعروف" وقال:" على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية" وقال:" لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" وقال:" من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه". ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام ان كان مجتهدا قصده اتباع الرسول لكن خفى عليه الحق فى نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذى أطاع به ربه ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذى ذمه الله لا سيما ان اتبع فى ذلك هواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه اذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد فى خلافه وانما تنازعوا فى جواز التقليد للقادر على الاستدلال وان كان عاجزا عن اظهار الحق الذى يعلمه فهذا يكون كمن عرف أن دين الاسلام حق وهو بين النصارى فاذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء كالنجاشى وغيره وقد أنزل الله فى هؤلاء آيات من كتابه.
وأما ان كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد فى التقليد فهذا لا يؤاخذ ان أخطأ كما فى القبلة وأما ان قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية وان كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا وان كان متبوعه مخطئا كان آثما كمن قال فى القرآن برأيه فان أصاب فقد أخطأ وان أخطأ فليتبوأ مقعده من النار)
وقال رحمه الله فى منهاج السنة جـ 8 صـ 47 وما بعدها :ـ
( وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل ولا يسقى ملحا ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون وتعلموا منهم وتأدبوا بهم واستفادوا منهم وتخرجوا على أيديهم وصحبوا من صحبوه منهم وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون من عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم وكذلك أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره. وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله وكلهم متفقون على دين واحد وطريق واحدة وسبيل واحدة يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن بلغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبلوه ومن فهم من القرآن والسنة ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه. ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا يستغيث به كالإله الذي يسأله ويرغب إليه ويعبده ويتوكل عليه ويستغيث به حيا وميتا ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه. فإن هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم:"اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" سورة التوبة 31 وكانوا متعاونين على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان متواصين بالحق متواصين بالصبر والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة وبمنزلة دليل الحاج فالإمام يفتدى به المأمومون فيصلون بصلاته لا يصلى عنهم وهو يصلى بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها فإن عدل عن ذلك سهوا أو عمدا لم يتبعوه. ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم فالدليل لا يحج عنهم وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه اتبع فالفاصل بينهم الكتاب والسنة. قال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59) النساء....)
و هذه النقولات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية يؤيدها غيرها من كلام غيره من أهل العلم و قد اختذلتها خشيت الإطالة و الله أسأل ان يزيل هذا المرض من قلوب أبناء الصحوة المباركة و أن يوفقنا لما يحبه و يرضاه منا اللهم آمين و آخر دعونا أن الحمد الله رب العالمين و الصلاة و السلام على أفضل المرسلين صلى الله عليه و سلم .
0 التعليقات:
إرسال تعليق