بسم الله و الحمد الله و الصلاة و السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم اما بعد فمن الآيات التى تحمل توجيها ربانيا لرسول الله صلى الله عليه و سلم و توجيها للأمة من بعده هذه الآية الكريمة التى بين ايدينا والتى تحمل فى طيات معانيها كثيرا من الآداب على كمل وجه من وجوه تفسيرها , و هى من جنس اختلاف التنوع فى التفسير لأن الآية تحتمل كل هذه الوجوه فى التفسير .
و قد اختلف السلف في معنى الآية . فقيل المعنى : لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير . وقيل : لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها ، قاله عكرمة ، وقتادة . قال الضحاك : هذا حرّمه الله على رسوله؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق ، وأباحه لأمته . وقال مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولك حبل متين : إذا كان ضعيفاً . وقال الربيع بن أنس : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير .
وقد قال الإمام القرطبى : (الثانية: هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال؛ يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" . وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت" ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب؛ لأنها باب من أبواب المذلة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . وذلك جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك ، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته . وقيل : لا تمنن بالنبوّة ، والقرآن على الناس ، فتأخذ منهم أجراً تستكثره . وقال محمد بن كعب : لا تعط مالك مصانعة . وقال زيد بن أسلم : إذا أعطيت عطية فأعطها لربك .
و قد وافق الأمام القرطبى فى ترجيحه ان المراد بالآية الا تعطى عطاء و تنتظر خيرا منه الإمام ابن كثير قال :
( وقوله: { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وأبو الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: "ولا تمنن أن تستكثر".
وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره. وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير. وقال خصيف، عن مجاهد في قوله: { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال تمنن في كلام العرب: تضعف.
وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس، تستكثرهم بها، تأخذ عليه عوضا من الدنيا.
فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم.
فعلى هذا التفسير تكون الآية خاصة بالنبى صلى الله عليه و سلم دون باقى الأمة
والحقيقة ان الأقرب هو القول الذى رجحه الإمام ابن جرير الطبرى لأن ذلك في سياق آيات تقدم فيهنّ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالجدّ في الدعاء إليه، والصبر على ما يَلْقَى من الأذى فيه، فهذه بأن تكون من أنواع تلك، أشبه منها بأن تكون من غيرها.
فالمعنى المراد على الراجح ما عبرعنه الشيخ السعدى رحمه الله بقوله { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } أي: لا تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية، فتتكثر (3) بتلك المنة، وترى لك [الفضل] عليهم بإحسانك المنة، بل أحسن إلى الناس مهما أمكنك، وانس [عندهم] إحسانك، ولا تطلب أجره إلا من الله تعالى واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد سواء.
فإذا كان الله قد خاطب رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم – بأن لا يستكثر بذله في سبيل الله تعالى ,
فلا تمنن يا محمد بعملك وعطائك وبذلك وجهادك في سبيل الله وتستكثر العمل لله تعالى ، لأن العمل لله تعالى وسام شرف ورفعه لك ..فإذ كان هذا خطابا له و هو حاشاه ان يفعل ذلك فماذا يقال فى حق من دونه فى المنزلة و العمل بل انه لا وجه للمقارنة بين بذله صلى الله عليه و سلم و بين بذل غيره فى سبيل الدعوة الى الله .
لذا فإن عطاء الداعية للدعوة ، وتضحيته وجهاده ، وبذله وكفاحه وإنفاقه للأوقات والأموال .. ينبغي أن ينظر إليه نظرة استصغار و شعور بالتقصير ، لأن الشعور بالتقصير هو طريق المؤمن نحو الأفضلية دائماً ولأن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بعدم استكثار عمل الخير ، لأن في ذلك مدعاة للفخر والاعتزاز و التراخي والراحة وترك العمل ..فالعطاء لا يتوقف ابدا وليعلم الداعية أن لا راحة له إلا عند أول قدم يضعها في الجنة .
بل ينبغى على الداعية الصادق ان ينظر دائما الى من فوقه فى البذل و التضحية فى سبيل الله , فأين عبادتك من عبادة الأنياء و المرسلين و اين بذلك من بذلهم بل اين عبادتك و طاعتك لله من عبادة الملائكة المقربين بل اين انت من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار الذين ملئوا الدنيا بذلا و تضحية فى سبيل الله , فلذا وجب على الداعية الا يستكثر ماقدمه من اعمال و لا يدفعه هذا الإستحسان لعمله الى ترك المبادرة و المسارعة فى الخيرات و هذه آفة و اضحة من آفات العمل الدعوى المعاصر فى ظل حالة من التقصير العام تجد من يرى انه وحده الذى يعمل لدين الله او هو الوحيد الذى يقوم بما امر الله به فى صورة فجة من صور المن بالعمل الصالح , فعلى من يمن على الله ام على اخوانه الدعاة , فى الحقيقة ان هذا يؤدى الى دنوا منزلة صاحبه فى نظر اصحابه و قد يؤدى الى ضياع الأجر عندما يلقى الله تعالى فيحاسبه على ما قدم , فليحذر العبد على نفسه من الوقوع فى هذه الرذيلة السلوكية و دائما ما يعالج العجب الذى قد يطرأ على النفس عندما تجد لها مزية فى جانب من الجوانب بالتواضع و استحضار ان هذه عطية من الله و محض منة منه سبحانه فلا يصح لأحد ان يتكبر على الخلق او يعجب بعمل هو فى حقيقته من غيره ولو وكله الله لنفسه لوكله الى نقص و عورة , و لتمثل دائما قول سليمان عليه السلام الذى لم يعجب يوما و لم يتكبر بما آتاه الله من الملك و كان دائما ما يتواضع للعظيم الجبار و يقول ما ذكره القران عنه ( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى ولدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) النمل : 19 نسأل الله ان يعافينا من كل داء و ان يجعلنا ممن يعمل له و لأجل رفعة دينه و ان يجعلنا من المقبولين .
ولا تمنن تستكثر
4:09 م
الشيخ / محمد القاضي
0 التعليقات:
إرسال تعليق