بسم الله و الحمد الله و الصلا و السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم , اما بعد
فإن العدل هو الغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ} [الحديد:25].
قال ابن القيم: "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهة بأي طريقٍ كان فثمَّ شرع الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، لا يقال: إنها مخالفة له، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسةً تبعا لمصطلحكم، وإنما هي شرعٌ حق.
فالعدل من الصفات التي اتفقت الشرائع جميعها على وصف الله به، بل الناس جميعا من أتباع الكتب السماوية يقرون بالعدل الإلهي، قال ابن القيم: "أنه سبحانه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عبادُه منه ظلما، فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر نبيٌ بخلافه أصلا.
فمن أسماء الله تعالى الحسنى العدل، فهو سبحانه متصف بالعدل المطلق، فهو عادل في أحكامه الدنيوية والأخروية، وهو عادل في حكمه الشرعي والقدري، قال ابن القيم شارحا لاسم العدل: "ذو العدل على حذف المضاف... وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكرَّرا منه، كقولهم: رجلٌ صوْمٌ وعدْلٌ وزور وبابُه".
قال ابن القيم: "قوله: ((ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك)) متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد، أحدهما: إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضيه فيه لا انفكاك له عنها ولا حيلة له في دفعها، والثاني: أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء وكل شيء فقير إليه، ومن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده كما لم يخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته".
فهو سبحانه إن عاقب فبعدله، وإن أثاب فبمحض فضله وجوده وكرمه، قال ابن القيم: "فلا تناقضُ حكمتُه رحمتَه، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
والله تعالى لا يعذب الكفار يوم القيامة إلا بعد إقرارهم على أنفسهم، وشهادة الفطرة والوحي عليهم، قال ابن القيم: "إن الله سبحانه لكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسول إليه وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب، فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما، إحداهما: ما فطره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم، والثانية: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله، فيقوم عليه شاهد الفطرة والشِّرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا، كما قال تعالى: {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰفِرِينَ} [الأنعام:120] فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرارٍ وشاهدين، وهذا غاية العدل.
ومن كمال عدل الله تعالى أنه لا يظلم مثقال ذرة يوم القيامة، فهو سبحانه يحكم بين عباده ويعطي لكل ذي حق حقه بفضله وجوده ورحمته وكرمه، حقا أوجبه سبحانه على نفسه، ويعاقب كمن شاء بعدله، ولا يظلم أحدا من خلقه، فهو يعدل بينهم على تباعد أزمنتهم وأمكنتهم، وتنوع أوضاعهم وحالاتهم، واختلاف شرائعهم ومللهم، وتباين مستوياتهم وأعذارهم، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه.
وقد أمر الله به عباده في آيات كثيرة من كتابه العزيز وبين محبته لأهله فقال عز وجل: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وقال سبحانه: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً وقال سبحانه مبينا وجوب العدل في كافة الأحوال دون مراعاة لقرابة أو عرف أو غير ذلك من الاعتبارات الأرضية الجاهلية: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كانت بما تعملون خبيرا يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل دون أن تأخذهم في الله لومة لائم شهداء لله أي أدوها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين أي اشهد بالحق ولو عاد ضررها عليك أو على الوالدين والأقربين لا تراعهم فيا إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقر فالله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أي لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون . انها أمانة القيام بالقسط على اطلاقه، في كل حال وفي كل مجال، القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض والذي يكفل العدل بين الناس والذي يعطي كل ذي حقه حقه من المسلمين وغير المسلمين، ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأصدقاء والأعداء، ويتساوى الأغنياء والفقراء.
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المناوئين كما يكفله لهم هذا الدين، لقد نزلت آيات من القرآن لتنقذ رجلاً يهوديا من تهمة توجه إليه ،مع كيد يهود للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم وأتباع دينه بكل ما في جبلتهم من الرغبة في الشر وكراهية الخير للناس، وينصفه من رجل مسلم من قبيلة الأنصار، الأنصار الذين آووا ونصروا، وقدموا أرواحهم، وأموالهم في سبيل الله.
والقصة كما ترويها كتب التفاسير: أن نفرا من الأنصار .. غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار فتفنن هو وقومه في إخفاء السرقة بحيث يتهم فيها أحد اليهود من أهل المدينة، وحين يقع مثل هذا الحدث في أي شعب من الأرض، وفي أي حقبة من التاريخ ،فليس له نتيجة متوقعة إلا الأخذ بتلابيب ذلك الشخص الذي ينتمي إلى مثيري الشغب، والإسراع بتطبيق العقوبة المقررة عليه، إن لم يكن التنكيل به شر تنكيل، لأنه فوق انتمائه إلى فئة معادية للشعب قد ارتكب جريمة محددة يستحق عليها العقوبة، وحين فحص الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القاضي ظروف القضية فقد هم ـ حسب القرائن ـ أن يحكم على اليهودي، ولكن الوحي يتنزل من السماء لتبرئة ذلك اليهودي من الجريمة التي لم يرتكبها، وإدانة المسلمين الذين أرادوا أن يفلت جانبهم من العقوبة فنزل قول الله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً [النساء
لقد بلغ أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الذروة في تحقيق العدل في واقع الأرض، ولم يكن ذلك مجرد وصايا، ولا مُثُل عليا لا تتحقق، ولكنها كانت واقعا من واقع حياتهم اليومية واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم يعرف ذلك المستوى إلا في تلك الحقبة المنيرة.
والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة، فمن تلك النماذج الرائعة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعا كانت عزيزة عنده فوجدها عند يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح .. وعلي يومئذ هو الخليفة أمير المؤمنين فسأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب .فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فرد هذا متلاعبا: الدرع درعي! وما أمير المؤمنين عندي بكاذب [يريد أن يمسك العصا من منتصفها] فيلتفت شريح إلى أمير المؤمنين، هل من بينة؟! إنه هكذا العدل! البينة على من ادعى .. وهذه دعوى إلى القضاء لابد فيها من البينة .. وإن تكن مرفوعة من علي رضي الله عنه، الذي لم يعرف عنه كذب قط، والذي لا يعقل أن يكذب على الله من أجل درع، وهو المستعلي على كل متاع الأرض! ولكن جواب علي رضي الله عنه كان أروع! قال: صدق شريح! مالي بينة! هكذا في بساطة المؤمن المتجرد .. مالي بينة!! لم يغضب! لم يقل للقاضي كيف تطلب البينة وأنا صاحب رسول الله؟ وكان موقف شريح موقفا رائعا كموقف أمير المؤمنين .. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعي أمير المؤمنين!! وأخذ الرجل الدرع ومضى وهو لايكاد يصدق نفسه! ثم عاد بعد خطوات ليقول: يا لله!! أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضي عليه؟ إن هذه أخلاق أنبياء! أشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدا رسول الله! الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجت من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها .. فيقول علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك
ومن الأمثلة الرائعة ايضا ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ودفع له ثمنه ثم ركب فرسه ومضى به، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس طويلا حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري فانثنى به عائدا من حيث انطلق وقال للرجل: خذ فرسك فإنه معطوب! فقال الرجل: لا أخذه يا أمير المؤمنين وقد بعته منك سليما صحيحا .فقال عمر: اجعل بيني وبينك حكما، فقال الرجل يحكم بيننا شريح الكندي ،فقال عمر: رضيت، فاحتكم عمر أمير المؤمنين وصاحب الفرس إلى شريح فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر وقال: هل أخذت الفرس سليما يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: نعم، فقال شريح احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين أو رُد كما أخذت! ماذا كان موقف عمر عند ذلك هل زمجر في وجهه وقال كيف تحكم على أمير المؤمنين أو شيئا من هذا القبيل؟! كلا ولكن قال: وهل القضاء إلا هكذا؟! قول فصل، وحكم عدل.
إذا تقرر هذا فأنه لا عدل إلا في ظل شريعة الله تعالى، فليُعلم أنه إذا قصر أهل الشريعة في بيان ما انطوى عليه دين الله وحكمه من العدل والرحمة والمصلحة في العاجل والآجل فإن ذلك التقصير سيحمل أهل الباطل على أن يبتكروا لأنفسهم من السياسات والقوانين ما يظنونه عدلا وهو الظلم بعينه والجور برمته، قال ابن القيم: "هذا موضع مزلة أقدام، وهو مقام ضنكٍ ومعتركٌ صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرةً لا تقوم بها مصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل، بل عطلوها مع علمهم قطعا وعلم غيرهم بأنها أدلة حق ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله"
ومن ذلك: إطلاق الكفار والعلمانيين ودعاة حقوق الإنسان العدل على كثير من المبادئ والأفكار المخالفة للدين الحق، بل ربما بعضها يصادم أديانهم المحرفة، كإطلاقهم العدل على التسوية بين المختلفَيْن، ويندرج تحت هذا صورٌ كثيرة، منها التسوية في الحقوق السياسية بين الخاصة والسوقة، وبين العلماء والسفهاء، وبين الخبير بالشأن والعجوز التي لا تعلم شيئا عما هو خارج عن نطاق بيتها، فيجعلون أصوات هؤلاء كلِّهم على حد سواء بزعم العدل، وهذا غاية الظلم، وهو منافٍ للعقل السليم الراجح.
وكثير من هؤلاء الكفار وأتباعهم الذين ضعف الإيمان بالله في قلوبهم يطعنون في بعض أحكام الإسلام بأنها مخالفة للعدل، فيشككون بذلك في الإسلام، كجعل دية المرأة نصف دية الرجل، وميراثها على النصف من ميراث الرجل إلى غير ذلك من الأحكام التي شرعها أحكم الحاكمين وأعدل العادلين.
ولهم سلف في هذا المسلك المرذول فقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال:
يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت ما بالها قطِعت في ربع دينار؟!
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وأن نعـوذ بمولانا من النـار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلَّبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي أن قال: "لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت"، ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمس مائة دينار لئلا يجنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدْر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب.
ومن ذلك ما نراه و نسمعه و نقرأه من بعض الكتّاب والمؤلفين والمتحدثين عندما يصفون الإسلام بأنه ( دين المساواة ) هكذا بإطلاق ، ويعدون هذا الوصف منقبة له إذ ساوى بين الناس جميعًا – كما يزعمون - .
وتجد هذا كثيرًا عند حديثهم عن موقف الإسلام من غير المسلمين ، أو موقفه من حقوق الإنسان ، أو موقفه من المرأة ..
متوهمين أن " صفة المساواة " صفة مدح في جميع أحوالها ، فيلزمهم على هذا أن يساووا بين أحكام المسلم وأحكام الكافر ، وبين أحكام الرجل وأحكام المرأة ، وهي مما جاءت الشريعة بالتفريق بينها .
وقد فعل هذا العصريون للأسف ! عندما واجهتهم النصوص الشرعية التي تمايز بين من سبق ، فأخذوا يتكلفون طريقة التخلص منها ! إما بردها ، أو التغافل عنها ، أو تأويلها ..
حتى وصل بهم الحال إلى أن جعلوا المسلم - في الدنيا - كالكافر – والعياذ بالله - . بل تجاوز بعضهم في الضلال حتى جعلهم متساوين في أحكام الآخرة ! مشاقة لله عز وجل ، واتهامًا مبطنًا له جل جلاله بالظلم في أحكامه .
ومن طالع كتاباتهم علم هذا .
فيصدق على هؤلاء قوله تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} ، وقوله تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ، وقوله {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} .
وكذلك فعلوا في أحكام الرجل وأحكام المرأة إذ ساووا بينهما ، معتقدين أنهم بهذه الطريقة ينصرون المرأة المسلمة ، محملينها ما لم يُحمّلها الله .
وماعلم هؤلاء أن المساواة المطلقة لا وجود لها إلا في أذهانهم ، وأنها مخالفة ومعاندة لقضاء الله الشرعي والقدري .
فقد فاوت سبحانه بين مخلوقاته ، ويسر كلّ مخلوق لما خُلق له . فالشمس غير القمر ، والرجل غير المرأة ... وهكذا . وفاوت كذلك بين من أطاع أمره ممن خالفه ، فجعل لكل واحد أحكامه التي تخصه بسبب اختياره وعمله .
فلو وفق هؤلاء الكتاب لأنزلوا كل مخلوق منزلته التي أنزله الله إياها ، موقنين بأن الله لا يظلم أحدا .
ولو وفق هؤلاء لقيدوا مساواتهم تلك ولم يُطلقوها ، فقالوا مثلا : الناس متساوون في الخلقة ، أو متساوون في حب زينة الحياة الدنيا ، أو في كراهية الظلم .. الخ مما جاءت الشريعة بتقرير المساواة فيه بين الناس .
وقل مثل ذلك في قضية الرجل والمرأة ؛ فتقيد المساواة ولا تُطلق ؛ فيقال مثلا : المرأة مساوية للرجل في التكليف ، أو في الجزاء الأخروي .... وهكذا ، مما جاءت الشريعة بتقرير مساواتهما فيه .
أما الإطلاق فلا ..
لأنه يلبس على الناس ، ويعارض قضاء الله وأحكامه - كما سبق - .
فالواجب أن تُستبدل عبارة ( الإسلام دين المساواة ) بعبارة ( الإسلام دين العدل ) ؛ لأن العدل وضع الشيئ في موضعه الذي أراده الله له ، دون مجاوزة أو نقص .
قال الشيخ ابن العثيمين في " شرح العقيدة الواسطية " ( 1 / 180-181 ) :
( إن من الناس من يستعمل بدل العدل المساواة ؛ وهذا خطأ ، لا يقال : مساواة ؛ لأن المساواة تقتضي التسوية بين شيئين ، الحكمة تقتضي التفريق بينهما ، ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون : أي فرق بين الذكر والأنثى ؟ سووا بين الذكور والإناث ، حتى إن الشيوعية قالت : أي فرق بين الحاكم والمحكوم ؟ لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد حتى بين الوالد والولد، ليس للوالد سلطة على الولد ، وهلمَّ جرّا .
لكن إذا قلنا بالعدل وهو " إعطاء كل أحدٍ ما يستحقه " : زال هذا المحذور ، وصارت العبارة سليمة ، ولهذا لم يأت في القران أبداً : " إن الله يأمر بالتسوية " لكن جاء : { إن الله يأمر بالعدل } ، { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } .
وكذب على الإسلام مَن قال : إن دين الإسلام دين المساواة ، بل دين الإسلام دين العدل ، وهو الجمع بين المتساوين والتفريق بين المفترقين .
أما أنه دين مساواة فهذه لا يقولها مَن يعرف دين الإسلام ، بل الذي يدلك على بطلان هذه القاعدة أن أكثر ما جاء في القرآن هو نفي المساواة : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } ، { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } ، { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ، ما جاء ولا حرف في القرآن يأمر بالمساواة أبدًا إنما يأمر بالعدل ، وكلمة العدل أيضا تجدونها مقبولة لدى النفوس ،
فأنا أشعر أن لي فضلاً على هذا الرجل بالعلم ، أو بالمال ، أو بالورع ، أو ببذل المعروف ، ثم لا أرضى بأن يكون مساوياً لي أبدًا ). . اهـ كلامه رحمه الله
ولعله يتيسر فى مقام آخر ان نبين بعض التفاصيل فى الشريعة الغراء التى توضح ان العدل ليس فى المساواة بل ما جاءت به الشريعة من التفريق هو عين العدل و الحكمه
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه معرفا العدل : (إن الله إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيى القلوب، فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله، من علم شيئاً فلينفع به، إن للعدل أماراتٍ وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين. وأما التباشير فالرحمة. وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسّر لكل بابٍ مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال. والزهد أخذ الحق من كل أحدٍ قبله حقٌ، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيءٌ..).
وقال سعيد بن جبير في جوابٍ لعبد الملك عن العدل: "العدل على أربعة أنحاء: العدل في الحكم لقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ} [المائد:42]، والعدل في القول لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ} [الأنعام:152]، والعدل في الفدية لقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:123]، والعدل في الإشراك، قال تعالى: {ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1
وقال عمر بن عبد العزيز: (إذا دعتك قُدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله تعالى عليك، ونفاد ما تأتي إليهم وبقاء ما يأتون إليك)
وقال ابن تيمية: "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويُروى (الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة)هذا ماتيسر بيانه عن هذا المعنى العظيم من معانى الشريعة و آخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين و الصلاة و السلام على افضل المرسلين و على آله و صحبه و سلم .